“وفا” ترصد شهادات حيّة للصحفيين من خيام النزوح
غزة 10-11-2024 وفا- يعاني الصحفيون ونشطاء منصات التواصل الاجتماعي في قطاع غزة الأمرَّين بسبب معايشتهم لظروف صعبة في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023.
ولا يزال الصحفيون والمؤثرون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم في رحلة النزوح، وبالرغم من كلّ هذا، لم يتوقفوا عن العمل الصحفي من أجل إيصال رسالتهم الصحفية تحت خطر الموت الذي يواجههم يوميا.
تجربة مؤلمة مع النزوح
الشقيقان محمد وخليل نعيم، صحفيان ومن نشطاء منصات التواصل الاجتماعي مثل “تيك توك” و”فيسبوك” و”يوتيوب”، كانت لهما تجربة مؤلمة مع النزوح من بلدة بيت حانون في أقصى شمال قطاع غزة إلى محافظات الجنوب، متنقلين بين المدن ومخيمات النزوح في ظروف معيشية صعبة، ويعملان عبر المنصات المختلفة على نقل الأحداث والمعاناة الإنسانية الناجمة عن الحرب.
محمد، وهو الأخ الأكبر، يقول لـ”وفا”: “رحلة نزوحنا كانت من بلدة بيت حانون أقصى شمال قطاع غزّة، وبدأت في آخر ساعات اليوم الأول من الحرب، تحديدا في مساء يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر.. كانت ليلة صعبة جدا على المستوى الأمني، إذ وصلتنا رسائل من الاحتلال بضرورة الإخلاء الفوري”.
ويضيف: “كان من الصعب على أنفسنا أن نتقبل فكرة أننا سنترك بيوتنا بكل ما فيها من ذكريات، كما سنتخلى عن مكان عملنا، الأستوديو المجهّز بالكامل بالكاميرات وأجهزة الصوت.. أعادت لي هذه اللحظات مشاهد هجرة أجدادنا عام 1948”.
ويتابع: “كنت أفكر في توثيق هذه اللحظات المهمة والمرعبة في حياتي وحياة أسرتي لنشرها على تيك توك، لكنَّ الخوف والرعب الشديد الذي كنّا نعيشه منعني من ذلك.. أذكر أنني كنت أحمل أطفالي على صدري، والآخرون كانوا يتشبثون في ملابسي، وزوجتي أيضا كانت تذوب من الخوف وتحمل في يديها حقائب لأوراقنا المهمة وبعض الملابس.. خرجنا تحت القصفِ المستمرِ من طائرات F-16 والمدافع، وكانت الشظايا تتناثر من حولنا، والأطفال يصرخون، ونحن نركض من مكانٍ إلى مكان سيرا على الأقدام.. تنقّلنا بعدها لأربع أو خمس مناطق مختلفة في جنوب القطاع”.
ويصف محمد حياة النزوح: “كنا تقريبا 40 شخصا في غرفة صفٍّ تعليميّ لا تتجاوز مساحتها 45 مترا مربعا، في ظل نقص شديد بغالبية مستلزمات الحياة، لا مياه، ولا كهرباء، وحتى الغذاء كان عبارة عن معلبات بالكاد نحصل عليها من وكالة الغوث (الأونروا).. عشنا حياة غاية في الصعوبة حتى خرجنا من رفح بعد أوامر الإخلاء، لننتقل إلى حياة الخيام في المواصي غرب مدينة خان يونس، لنعيش مرحلة جديدة من النزوح والمأساة، وما زلنا كذلك حتى اليوم”.
بدوره، يتحدث شقيقه خليل، الذي يدير قناتهم الخاصة على “تيك توك” ومنصات تواصلٍ اجتماعي أخرى، حيث يهتمون بنقل الأخبار العاجلة والتقارير الإخبارية: “نجد صعوبة كبيرة في الحصول على الإنترنت من أجل نشر الأخبار أو الوصول لأية معلومة أو حتى التواصل مع متابعينا، كما أننا نعمل في أجواء غير مناسبة للعمل الصحفي، مثل تسجيل وتصوير التقارير من داخل الخيمة”.
ويضيف خليل: “اضطررنا لشراء وحدات الطاقة الشمسية بأسعارٍ مرتفعة، كما كلفنا الوصول إلى الإنترنت الكثير”.
وكبقية المواطنين في قطاع غزة، عانى الصحفيان نعيم من حرب التجويع خلال نزوحِهما مع أفراد عائلتيهما، فكانا يقضيان بعض أيامها على القليل من المعلبات التي لا تسدّ الرمق ولا الجوع، وعانيا أيضا من عدم توفر الدواء، كونهما يعانيان من مرض مناعي يحتاج إلى علاجٍ بيولوجي ضروري، الذي انقطع لفترات طويلة، مما اضطرهما إلى اللجوء لتناول المسكنات للتخفيف من الألم، وهي الأخرى لا تتوفر بسهولة، وإن وجدت فهي بأسعار مرتفعة، ولا حلّ سوى الانتظار.
“ثوب الصلاة”…الزي الرسمي للنازحات
بدورها، تصف مراسلة تلفزيون فلسطين الزميلة صفاء الهبيل لـ”وفا” معاناتها مع النزوح، وتقول: “منذ بداية نزوحنا من الشمال باتجاه الجنوب بعد أوامر الاحتلال بالإخلاء والمنشورات التي تم إلقاؤها، والاتصالات الهاتفية من الاحتلال بضرورة إخلاء مدينة غزة، كان المربع السكني الذي نعيش فيه ضمن المربعات الأولى للإخلاء.. في اللحظات الأولى، كانت أحزمة نارية ينفذها الاحتلال في المنطقة، ولم يكن أمامنا خيار سوى النزوح، ولم تكن لدينا فرصة لأخذ أي من ملابسنا أو أوراقنا الخاصة بالممتلكات، كذلك الهويات وجوازات السفر.. كانت حالة من الصدمة وعدم الإدراك لما يمكن أن تؤول إليه الأمور”.
وتضيف: “لم نكن نعلم أن الحرب ستمتد أكثر من عام.. خرجنا بثوب الصلاة، الذي أصبح الزي الرسمي للنزوح لنا كنساء.. لم أستطع حمل درعي الصحفي نظرا لثقل وزنه وكبر حجمه، كنت أتوقع أن أعود بعد أسبوع للمنطقة، ولم يحدث ذلك حتى الآن، عام وشهر ولم نعد، خاصة أن الاحتلال دمر المربع السكني الذي أسكن فيه بالكامل”.
وتتابع: “لحظة وصولنا للجنوب ونزوحنا، كان الخوف والقلق مما سيحدث أو ما يحصل وتبعات هذا الإخلاء، لدي أيضًا عائلة.. والدتي الستينية ووالدة زوجي السبعينية، كانتا ضمن من نزحوا معي، كان من الصعب توفير مكان خاص لهما، خاصة أنهما تعانيان من أمراض مزمنة ومشاكل في العظام ولا تستطيعان النوم على الأرض، وكانت لديّ مشاكل في تجهيز ملابس لهما ولزوجي، إضافة إلى مشكلة توفير المتطلبات الأساسية، خاصة أنهما لا تأكلان المعلبات.. حينها أصبحت تكلفة الحياة باهظة الثمن، وبالطبع كانت أسعار اللحوم والخضروات فلكية، كما أن الحصول على الأدوية كانت مهمة صعبة”.
وتطرق الهبيل إلى العمل الصحفي في ظل واقع الحرب والنزوح، وتشير: “بعد التعايش جزئيًا مع الواقع، وبعد أسبوع عدت للعمل مجددا، بالطبع كانت مشكلة كبيرة أنني لا أعلم المنطقة التي أسكن فيها، ولا من يحيط بنّا، ولا أسماء الشوارع، وكان الوصول لمستشفى شهداء الأقصى (في دير البلح وسط القطاع) يعتبر مهمة شاقة.. كان العمل عشوائيا ودون معرفتي بمكان زميلاتي وزملائي في العمل، ولم تتوفر لنا خيمة خاصة للعمل ولم تتوفر معدات أو أدوات للعمل، بعدها بدأت مسألة محاولة الحصول على معدات من كاميرا وميكروفون وأجهزة وتوفير درع، فكانت الأسعار خيالية”.
وتضيف: “في أحد أيام وجودي في مستشفى شهداء الأقصى، كان هناك استهدافات عدة، وفي لحظة كنت أسير في شارع ولم أفق إلا والركام فوق رأسي أنا والزملاء.. كانت لحظات من الغبار والصراخ، وكان الاستهداف قريبا جدا، كان التحدي أن أصل بأمان للمستشفى.. مرّ عام على الحرب، ولم يمر مرور الكرام، وكان أصعب عام في حياتي كلها.. عانينا كنساء وصحفيات، فالأدوات الصحية كان الحصول عليها صعبا جدا، كل شيء كان مفقودا، مما زاد من معاناتنا الإنسانية، وبالطبع كانت البدائل صعبة وكأننا عدنا لعصور قديمة”.
وتتابع: “كانت المشكلة الأصعب لي هي تصوير جثامين الشهداء وأشلاء النساء…امرأة مثلي مثلها مقطعة أشلاء، أشاهد أكواما من اللحم البشري أمامي، وصلاة الجنائز على أكوام وأكياس بلاستيكية مليئة بالأشلاء، ومصابات ومشوهات وحالات بتر أطراف، كل هذا كنت مضطرة للتعامل معه وجها لوجه، وأيضا التعامل مع رد فعل أهالي الشهداء.. لحظات صعبة وقاسية، هن نساء تعرضن لأبشع جريمة في الحرب، من أصعب ما يمكن أن تعيشه المرأة الفلسطينية”.
وتردف قائلة: “نحن الآن على أبواب فصل الشتاء بلا أغطية، بلا فراش، لم نتوقع أن تطول، ولكن الحرب طالت.. نعيش أصعب كابوس كصحفيات وكنساء عاملات وربات بيوت، والمسألة أصعب من أن نوجزها بكلمات”.
افتقار للمعدات والسيولة النقدية
وتعرضت خيام النازحين والصحفيين أمام مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح للقصف الإسرائيلي تسع مرات على الأقل، آخرها يوم السبت، حيث استشهد مواطنان وأصيب 26 آخرين، بينهم صحفيان.
الزميل الصحفي هاني أبو رزق، مراسل صحيفة “الحياة الجديدة” وأحد نشطاء منصات التواصل الاجتماعي في قطاع غزة، يقول” “أنا نازح من سكان مدينة غزة، شارع الثلاثيني، ونزحت أكثر من ثلاث مرات؛ أولها كان من غزة باتجاه المحافظة الوسطى، وبعدها إلى رفح، ومن ثم عدت إلى وسط القطاع، وحاليا في مستشفى شهداء الأقصى، أنا وعدد كبير من الزملاء الصحفيين بعد أن تقطعت السبل للوصول لمكان نلجأ وننزح فيه، أما عائلتي فاستقر بهم النزوح في منطقة السوارحة بين بلدة الزوايدة ومخيم النصيرات بعد أن نزحوا من رفح”.
ويضيف: “وجودنا في المستشفى يسمح لنا بالحصول على الكهرباء، ولكن في بعض الأحيان تنقطع بسبب شح الوقود، أما إذا كنت خارج المستشفى فمن المستحيل أن أجد كهرباء.. وبالتالي أواجه صعوبة بالغة في الحصول على معلومات لاستمرار عملي، ما يعرّض حياتي للخطر في معظم الأحيان. إضافة إلى تحليق طائرات الاحتلال على ارتفاعات منخفضة عند خروجنا ليلا، ما يسبب حالة من الرعب والقلق الكبير”.
ويشير أبو زرق إلى استشهاد ثلاثة صحفيين إثر قصف الاحتلال قبل أيام مدرسة في مخيم الشاطئ، ويعقّب: “هذا رقم كبير…حتى في الحرب العالمية لم تسجّل مثل هذه الأعداد من الضحايا الصحفيين”.
وحول ظروف العمل الصحفي في ظل النزوح والحرب، يقول أبو رزق: “نفتقر للمعدات حتى نستطيع مواصلة عملنا، مثل الميكروفون، والهاتف المحمول، وما يتلف لا يوجد مكان للصيانة، والبديل بأسعار مرتفعة جدًا تصل إلى عشرات الأضعاف، كما نفتقر للإنترنت، وفي معظم الأحيان ينقطع عن المدينة وعن المستشفى التي أقيم فيها، ونلجأ في بعض الأحيان إلى استعمال شريحة إلكترونية E-Sim لا تفي بالغرض؛ لأنها تحتاج أماكن مرتفعة وبالتالي نكون مكشوفين لجيش الاحتلال، ما يعرضنا للخطر”.
ويضيف: “كما نفتقر لأماكن للنوم، ونفتقر لتوفير السيولة النقدية لمواصلة عملنا والتنقل، وهنا تبرز المعاناة بسبب سيطرة بعض التجار على السيولة النقدية، ويقومون بأخذ عمولة تتراوح بين عشرين بالمئة أو أكثر في بعض الأحيان، ما يستنزف جيوبنا دون وجه حق في ظل معاناة صعبة نعيشها”.
ويستدرك قائلا: “لو كنّا في ظروف أفضل كان من الممكن التغطية والاستمرار بشكل أفضل، وأيضا العامل النفسي والضغط الذي نتعرض له يجعلنا نشعر بالإحباط في أغلب الأوقات، ونشعر أن صورنا لا تصل للعالم بعد أكثر من عام على الحرب”.
مراكز التضامن الإعلامي
ويقول عضو الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين عاهد فروانة لـ”وفا” إن الاحتلال الإسرائيلي قتل منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي على الأقل 174 صحفيا وعاملا في قطاع الاعلام في أكبر مجزرة ترتكب في حق الصحفيين بتاريخ الحروب العالمية، إضافة إلى إصابة أكثر من 300 صحفي بجروح متفاوتة، منهم من يحتاج الى العلاج بالخارج لخطورة إصابته.
ويشير إلى اعتقال 125 صحفيا لا زال 57 منهم داخل المعتقلات الإسرائيلية حتى الآن، إلى جانب تدمير أكثر من 80 مؤسسة صحفية بحيث لا يوجد مكان للصحفي للعمل به، ما يضطره إلى العمل من داخل مراكز الإيواء والخيام والمدارس والمستشفيات في ظل انقطاع الكهرباء وصعوبة الاتصالات والانترنت والتنقل.
وفي إطار دعمها للصحفيين العاملين في قطاع غزة، أنشأت نقابة الصحفيين مراكز التضامن الإعلامي من أجل توفير مساحة ملائمة للصحفيين في وسط وجنوب قطاع غزة تتوفر فيها الكهرباء والإنترنت حتى يستطيع الصحفي والصحفية أداء عملهم الإعلامي وفضح جرائم الاحتلال المتواصلة، بحسب فروانة.